تطرّق المقال المنشور بتاريخ 5جويلية 2013 للفيلم الذي انتجه الكاتب و المحلل السياسي نزار الجليدي بعنوان ‘هلالة’.
وجاء في المقال المذكور:
ما فتئ المخرج المسرحي الشاب الأستاذ نزار الجليدي ينحت دربه الإبداعي على الصخر بالأظافر، ويراهن على تفعيل المشهد المسرحي وإثرائه بنصوص ترقى إلى مستوى الذائقة الفنية لجمهور المسرح، حيث قدّم تجارب مسرحية عديدة ومتنوعة أسالت حبر النقاّد واستقطبت اهتمام الإعلاميين لما تميّزت به من حبكة وبراعة وقدرة على استقدام الجمهور إلى فضاءات المسرح.. ومن بين المسرحيات التي لاقت صدى في الأوساط الإعلامية نذكر مسرحية: الأمير الصغير.. وغناوي القصير.. وغير هاتين المسرحتين المتميزتين كثير.
إلا أنّ الملفت للإنتباه حقا هو عدم اكتفاء هذا الشاب الطموح (نزار الجليدي) بما أنجزه من ابداعات على مستوى خشبة المسرح ،بقدر ما انفتح على فضاء آخر له من الأهمية بمكان إلى درجة تدفع بنا إلى التساؤل حول ما إذا كان نزار الجليدي مسرحيا..أم سينمائيا..؟ فالفن الآخر الذي اعتنقه- نزار- بحميمية مشتهاة – هو السينما إذ جازف مؤخرا بإنتاج فيلم قصير (26 دقيقة) جاء تحت عنوان’هلالة’ وشهد عرضه الأوّل يقاعة برناس في الثالث عشر من الشهر الجاري حضورا كثيفا للإعلاميين والنقاد ومشجعين من أبناء جهة تطاوين تجشموا الصعاب وجاؤوا من تلك الربوع الشامخة انتصارا فذا لإبن جهتهم نزار.
وبما أنّ الرهان على جودة الإخراج، وتماسك بنيان النص لتشكيل مشهد سينمائي متميّز يستدعي إلماما شاملا بتفاصيل العمل السينمائي فضلا عن ثقافة ثرية تمنح المنتج والمخرج على حد سواء قدرة خارقة على إنتاج عمل متكامل من شأنه لفت انتباه المهتمين بالشأن السينمائي من نقّاد وإعلاميين دون استثناء جمهور السينما، فإنّ السناريست نزار الجليدي جازف بملامسة موضوع يمكن إعتباره من- المسكوت عنه- إن لم نقل من المحجّر الإقتراب منه لدى أصحاب الفكر الموغل في التشدّد خصوصا ونحن نعيش منذ إشراقات ما يسمى بالربيع العربي حالة من الإرباك الإجتماعي مردها ايغال البعض منا في التشدّد عبر المغالاة في الدين إلى درجة أصبحت تنتاب المبدع فوبيا الخوف والملاحقة وتحوّل في أحيان كثيرة الإبداع في تجلياته الخلاقة إلى لعنة وعقاب.
هذا الإختراق الجسور- للمسكوت عنه – من لدن نزار الجليدي تمثّل بالأساس في معالجة جريئة لحالة إجتماعية بائسة بأسلوب فنّي متقدّم، حيث شكلت’هلالة’ (خولة الشامخ) المرأة البربرية القاطنة بمنطقة شنني من ولاية تطاوين نقطة ارتكاز صلبة لكافة أحداث الفيلم وحولها احتدم الصراع بين إرادة فذّة تدفع إلى الأمام، وأخرى متعنّة تشدّ إلى الوراء.. ف’هلالة’ التي ترمّلت على إثر فقدان زوجها في خضم التداعيات الدراماتيكية للثورة التونسية عام 2011 تجد نفسها فجأة – في عين العاصفة – لا سند لها ولأطفالها الثلاثة اليتامى في ظل – الغياب القدري- لرب الأسرة سوى رغبة جامحة في تحدي نوائب الدهر عبر الإصرار على العمل كمنظفة بالمسجد الذي كان يعمل به زوجها الراحل بالرغم من التقاليد البائسة والأفكار البالية التي تحول دون عمل المرأة بهكذا أماكن ظلت لعهود طويلة من الزمن حكرا على الرجال.
‘هلالة’ وفق تصورات تيّار ديني متشدّد تعتبر ‘عورة’ ومن ثم لا يجوز لها العمل بدلا عن زوجها منظفة بالمسجد.. وهذه الأرملة الملتاعة ترفض الأكل بثدييها – أو إراقة ماء وجهها والمتاجرة بكرامتها ومن ثم تصرّ على العمل بشرف، عزّة وشموخ.. وببن هذين النقيضين تنفتح نوافذ الفيلم على صراع إرادات بين الكائن وما يجب أن يكون.. وليتصوّر- المشاهد – بقية أحداث الفيلم وليلتقط بعينيه المفعمتين بالآسى صورة- لهلالة- وقد وضعتها الأقدار بين فكي الرحى: تقاليد بائسة توحي بأنّ الأموات ما زالوا يحكموننا من وراء قبورهم.. وفكر متشدّد وغير رحيم يرى فيما نعتبره شرفا وكرامة وابداعا إنسانيا خالدا بدعــة وضلالة.
الملفت للإنتباه من خلال متابعتنا للعرض الأوّل لهذا الفيلم الذي احتضنته قاعة برناس هو الطبيعة الساحرة لقرية شنني التي تترجم المخزون الطبيعي في أبهى أشكاله حيث تجلّت تلك القرية الحالمة بغد أفضل ينفض عنها غبار السنوات العجاف في ثوب طبيعي خلاّب من شأنه استقطاب السياح عربا وأجانب،ولعلّ هذه إحدى الأهداف التي يؤسس لتحقيقها في المدى المنظور السيناريست نزار الجليدي يؤازره في هذا المشروع الطموح المنتج الفرنسي ستيفان اسبيك.
الشريط في مجمله رغم قصره(26 دقيقة) يرقى-وهذا الرأي يخصني- إلى مستوى الفرجة والإستمتاع ويبشّر في الآن ذاته بولادة جيل جديد من السيناميين يقطع مع الماضي بكل تراكماته التاريخية الثقيلة ويؤسس لإشراقات سينمائية خلاّبة تراوح بين الصورة الفنية الراقية والسياريو المحبَك بجودة عالية..
هذا الفيلم/الحدث حضره-كما أسلفنا- في عرضه الإفتتاحي عدد كبير من المهتمين بالشأن السينمائي من إعلاميين ونقاد دون أن نستثني أبناء جهة تطاوين الذين تجشّم البعض منهم الصـــعاب وشدّ رحاله إلى العاصمة التونسية لتشـــجيع -ابن البلد-الأستاذ نزار الـــجـــليدي في عرسه الفني البهيج ..
النقاش الذي أعقب الفيلم كان ثريا وحماسيا كما كانت ردود كل من السيناريست نزار والمنتج ستيفان على أسئلة الحضور مقنعة ودقيقة الأمر الذي أضاف إلى هذا الإبداع السينمائي المتميّز قيمة فنية ومعنوية لها دلالاتها وأبعادها الإيجابية..
ولنا عودة لفيلم’هلالة’ من خلال حوار كنا أجريناه على هامش العرض الإفتتاحي مع المنتج الفرنسي ستيفان اسبيك من جهة والسيناريست التونسي نزار الجليدي من جهة أخرى..
‘ عضو بإتحاد الكتاب التونسيين
حول فيلم ‘هلالة’ للمخرج نزار الجليدي: اختراق جسور للمسكوت عنه