وأنت تتجوّل في معتمديّات ولاية تطاوين من رمادة الى غمراسن الى البئر الأحمر و تطاوين المدينة تسترعي انتباهك ظواهر قلّما توجد في ولايات أخرى حيث تطالعك أحياء كاملة من المنازل الفخمة مغلقة و الأتربة تغزوها من كل الجوانب .
كما أن ظاهرة اختفاء الشباب أصبحت ترى بالعين المجرّدة في شوارع تطاوين فالكل هاجر أو هو بصدد المحاولة في الغرف المظلمة الخاصة بالهجرة السرّية.
والقليل من الشباب الذي بقي امّا هو من التلاميذ أو من القلائل المشتغلون في الادارة العمومية وهم أيضا يخططون للهجرة سرّا أو علنا.
تلك المنازل المتحدّث عنها هي على ملك عائلات كاملة هاجرت للخارج و صنعت استقرارها و مستقبلها هناك ولم يعد يربطها ب”الوطن” سوى أيام يقضونها سنويا هناك .غير أن مظاهر الثراء على هؤلاء متجسّدة في مساكنهم و في سياراتهم حينما يعودون جعل الكل في تطاوين يفكّر في الهجرة .
واليوم تعدّ الولاية أكثر الجهات في تونس تضم مهاجرون وهي الأكثر ولاية أيضا اكتوت بنيران ومآسي الهجرة السرّية أو ما يعرف ب”الحرقة” ومن الصّعب ان لم يكن من المستحيل أن لايكون في أي مركب “حرّاقة” العدد الأكبر من أبناء الجهة .
وهذا ما خلّف مآسي ولوعة كبيرة لدى عدد من العائلات التي فقدت عزيزا أو انقطعت أخباره عنها دون معرفة مصيره.
الحرقة الحلال !!
من المعروف أن الهجرة السرّية “الحرقة” هو عمل اجرامي يعاقب عليه القانون التونسي ومختلف القوانين الدولية .كما أن أغلب العائلات التونسية تجرّمه وتفعل ما بوسعها لمنع أبنائها من ركوب البحر و التحوّل لولائم لأعشاب البحر .وعدد من الأولياء يقومون بالتبليغ أعن أبنائهم اذا ما أحسوا أنهم يفكرون في ركوب قوارب الموت وفشلوا في اقناعهم بخطورة ذلك.
في هذا الاطار تحدّث الينا أب من جهة صفاقس يبلغ من العمر 55 سنة ويشتغل موظف بأنه اضطر للابلاغ عن ابنه ذو 18سنة بعد أن فشل في اقناعه بعد الهجرة سرا وقد تم منعه من قبل السلطات في اخر لحظة رفقة 15شابا اخر.
وكذلك فعلت السيدة رفيقة من جهة سوسة التي كانت سببا في منع جملة من الشباب بينهم ابنيها من ركوب قوارب الموت بعد ان تدبرا فيما بينهما مبلغ 10الاف دينار سلماها لمنسق”الحرقة”.
مثل هذه الحالات لاتجدها في تطاوين حيث تمارس “الحرقة الحلال” بمساعدة مادية من الاولياء وخاصة الامهات اللاتي تضطررن في اغلب الاحيان الى بيع حليهن ومواشيهن لمنح ثمنها لابنائهن لركوب البحر والكثير منهن لازلن يتجرعن كأس المر بعد فقدان فلذات اكبادهن.
خالتي خديجة صاحبة 70 عاما تحدثت الينا بمرارة كبيرة بعد أن فقدت ابنها في عرض البحر واخرج ولم تتمكن حتى من إلقاء نظرة الوداع عليه تقول بأنها لن تسامح نفسها لأنها جارت ابنها وباعت كل ما تملك لتوفر لابنها حوالي 6الاف دينار ركب بها البحر للحاق بأقاربه بفرنسا الذين وعدوه بالجنة هناك لكن اسماك البحر كانت الاقرب اليه ولم تنجح كل محاولات البحث في اخراج جثته من البحر.
وتقول خالتي خديجة بأن الاولياء في تطاوين يدفعون ابنائهم بكل الطرق للهجرة دون وعي بخطورة ذلك.
وتختم حديثها معنا بتنهيدة كافية لزلزلة السلطة ولكنها لاتكفي لايقاظ الضمائر الميتة وانصاف الولاية الاكثر ثراء و الاشد فقرا “بلاد طاردة اهلها وليدي”.
أصل الحكاية
الهجرة في تطاوين ثقافة تمتد لعقود فارطة وفيها من البعد السياسي اكثر من الاجتماعي حيث كان الزعيم بورقيبة من المشجعين لابناء الجهة على الهجرة الى فرنسا تحديدا ليرتاح من الصداع الذي يسببه له ” النطاوينية” الذين يشعرون بالغبن وبالتفاوت الجهوي.
وبالفعل فقد تمكن جيل كامل او جيلين من ابناء تطاوين من الاستقرار بفرنسا ويشكلون ركيزة مهمة في الاقتصاد الفرنسي وقدموا الكثير له فاغلب العاملين في التجارة والخدمات هم من ابناء الجهة و هم الذين يزودون الفرنسيين بالخبز وبالحلويات وبغيرها.
وقد تكونت في ظرف سنوات طبقة ثرية في الجهة مقارنة ببقية السكان وهو ما جعل الكل في تطاوين يفكر في الهجرة.
وبعد اغلاق الباب امام الهجرة المباحة بدأ الشباب في الالتجاء للهحرة السرية للالتحاق بالاب أو الاخ أو الصديق لكن هاته الهجرة محفوفة بالمخاطر أقلها الغرق و أقصاها الوقوع بين يدي المتطرفين و المتشددين الذين يستغلون هؤلاء وغيرهم في اعمالهم الارهابية مستغلين حاجتهم للمال وللاكل و للاقامة في بلد لايعترف سوى بالقانون والعمل القانوني.
تطاوين تتحول شيئا فشيئا لمدينة اشباح وفي ثلاثة أشهر فقط غادرها 14300 شابا منهم من وصل الى اوروبا ومنهم من يزال تائها في دول مجاورة يحاول الوصول لفرنسا أو المانيا ومنهم من كان وليمة لاعشاب وحيتان البحر.
وعدد اخر سيطرت عليه الجماعات المتشددة في تركيا والبوسنة وغيرها من الدول.