من أكثر الأشياء لفتا للانتباه في مشروع الدستور الجديد هو الاتجاه نحو إحداث مجلس وطني للجهات والذي من المنتظر أن يكون مقره مجلس المستشارين السابق في إعادة لتجربة مجلسي النواب و المستشارين في عهد الرئيس زين العابدين بن علي.
وهي تجربة أثبتت نجاعتها في التخطيط وتكامل الادوار بين المجلسين اللذين كونا مثلثا مهما مع الحكومة حينها.
الأمر يبدو مختلفا مع المجلس الوطني للجهات رغم التقاطع مع نفس الروح والتركيبة لمجلس المستشارين.
وقبل تحليل أبعاد و فلسفة هذا المشروع نورد ما قاله رئيس الجمهورية قيس سعيّد صاحب الفكرة في هذا المجلس وذلك في رسالته التي توجه بها الى الشعب التونسي حاثا اياه على التصويت بنعم لمشروع الدستور الجديد حيي قال “أنّ الغاية من إنشاء مجلس وطني للجهات والأقاليم هي مشاركة الجميع في صنع القرار” مضيفا أن “من تم تهميشه سيسعى إلى وضع النصوص القانونية التي تخرجه من دائرة التهميش والإقصاء والمهمة الأولى للدولة هي تحقيق الإندماج”.
مشددا على ، أنّ الإندماج لن يتحقق إلا بتشريك الجميع على قدم المساواة في وضع التشريعات التي تضعها الأغلبية الحقيقية تحت الرقابة المستمرة للشعب.
إذن فالهدف الأول من إحداث هذا المجلس هو رد السلطة كاملة للشعب الذي سلبت منه خلال عشرية الخراب وهاته السلطة سيمارسها وسيحس ممارستها من خلال اليات الديمقراطية المباشرة وهي الشكل الافضل للديمقراطيات في العالم حيث يكون المواطن شريكا في الربح والخسارة بلغة التجارة.
كما أن هذا المجلس والذي ستكون كل الولايات و المعتمديات ممثلة فيه سيقطع نهائيا مع المركزية في القرار ومع المركزية الاقتصادية و الحضارية بل سيكون الاقرب للشعب منه لمجلس النواب الذي ستبقى مهامه تشريعية سياسية بالأساس في حين سيكون المجلس الوطني للجهات متكفلا باستنباط المشاريع حسب طبيعة كل جهة وسيكون الحكم في التوزيع العادل للثروة الوطنية بالاضافة لاشرافه المباشر على ملف الشركات الاهلية ووضع التصورات والمخططات لها بعيدا عن السمسرة والبيروقراطية التي افشلت سابقا مشاريع رائدة تشبهها.
والشيء الايجابي أيضا في هذا المجلس انه سيولد من رحم الشعب بغض النظر عن الجاه والمال وسلطة الاحزاب فهو سيكون خليطا من العمال والموظفين الاساتذة والمختصين وهم يمثلون دوائرهم المحلية الضيقة ما يجعلهم الاقدر على استنباط الحلول التنموية الواقعية كما انهم سيكونون مسؤولين مسؤولية مباشرة أمام ناخبيهم يسحبون منهم الوكالة و شرف المسؤولية متى ثبت تقصير منهم او فشل في تحقيق ما انتخبوا لأجله.
يعني أن محاسبة الناخب لمن انتخب ستكون يومية عكس ما كان معمولا به في الدستور المنحل حيث تنتهي علاقة الناخب بناخبيه يوم دخوله المجلس.
ان المجلس الوطني للجهات ليس بدعة تونسية كما يردد البعض فقد نجحت الدول التي تعتمد نظام الغرفتين نجاحا كبيرا مقارنة بالدول التي تعتمد غرفة واحدة حيث تكون القرارات فيها أكثر نجاعة واكثر عدلا وانصاف بين الجهات.
وليس صحيحا أن هذا المجلس سيمثل عائق لعمل الحكومة و سيضعف المركز لكن الصحيح انه سيكون العين التي لاترى بها الحكومة ما يحدث في الجهات والقرى من ظلم وحيف وفقر وتفاوت رهيب في النمو.
المجلس الوطني للجهات سيحرك ما لم يتحرك منذ عقود وسينفض الغبار على ثروات مهملة في الجهات لاتحتاج سوى للارادة السياسية لاستغلالها لفائدة ابناء الجهة أولا و لفائدة الاقتصاد الوطني ثانيا.
فمتى أعطينا الحرية لابناء الجهات لاكتشاف وإدارة ثرواتهم و أفكارهم و مشاريعهم نكون قد حررنا المبادرة والعقول وخففنا الضغط على السلطة المركزية و هي الفلسفة الحقيقية من انشاء هذا المجلس الوطني للجهات.