لاشكّ أنّ العالم ما بعد الكورونا قد دخل منعرجات خطيرة تجاوزت الصحة الى السياسة و الاقتصاد .ومن أهمّ ملامح العالم الجديد هو تقويض الأحلاف القديمة التقليدية حيث برزت ثقافة المصلحة الوطنية وعاينّا ذلك من خلال ندرة التضامن الدولي في مواجهة الوباء حيث سعت كل دولة الى الانغلاق على ذاتها و التحكم في مواردها الذاتية وتوفير أقصى ما يمكن من الأمان الصحي لشعوبها.
وما ان انحسر وباء الكورونا و بدأ العالم في استعادة الأحلاف القديمة حتىّ اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية التي قصفت نهائيا هاته الأحلاف و قسمّت الدول الى مواقف من الحرب دون التقيّد بالأحلاف (الاتحاد الأوروبي نموذجا و الدول العربية أيضا).
المارد الصيني ينتفض
منذ سنوات خلت بدأت الصين بانتهاج سياسة التمكين التجاري و الاقتصادي في عدد من مناطق العالم التي كانت قد سقطت من اعتبارات الولايات المتحدة الأمريكية أو تلك التي أهملها الأوربيون وأهمها في العمق الافريقي و في آسيا .هذه السياسة كانت تمارس على نطاق محدود عبر مشاريع استثمارية صغيرة و هبات كثيرة وعبر قروض يعتبرها الغرب مجحفة و يطلق عليها ّمصيدة الدين الصيني” حيث تواجه بكين بسيل من الانتقادات بسبب ممارساتها في إقراض الدول الفقيرة، حيث تُتهم بترك تلك الدول تصارع من أجل تسديد ديونها وبالتالي تجعلها ضعيفة أمام الضغط من بكين.
لكن هذه الاتهامات تُقابلُ برفض من الصين، التي تتهم بدورها البعض في الغرب بترويج هذه المزاعم لتشويه صورتها.
ويؤكّد مسؤولون صينيون أنه لا توجد دولة واحدة وقعت فيما يسمى “مصيدة الدين” نتيجة للاقتراض من الصين.
لكن هذه الشكوك لها ما يبرّرها حيث تُعتبر الصين واحدة من أكبر الدول الدائنة في العالم وارتفعت قروضها للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط ثلاثة أضعاف خلال العقد المنصرم، لتصل إلى أكثر من 200 دولار في نهاية العام 2021 .
وقد استغلت الصين الحرب الروسية الأكرانية و انقسام العالم حولها لمحاولة رسم خارطة عالمية جديدة محورها بكين التي تقدّم نفسها على أنها تمنح للدول المحتاجة ما يحتاجونه مقابل الالتحاق بالحلف الصيني الروسي و الذي بدا واضحا أنه يستعدّ لقيادة العالم و ازاحة الولايات المتحدة عن دفة القيادة العالمية.
الصين و العرب
بات واضحا أن الصين قد نزلت بكل ثقلها في المنطقة العربية و أنها تطرح نفسها بديلا للأمريكان المتهمون باستنزاف خيرات العرب دون تقديم شيء يذكر في المقابل عكس بكين التي تعد بالكثير وهو ما أكده الرئيس الصيني خلال القمة الصينية الخليجية و القمة الصينية السعودية و القمة العربية الصينية الملتئمة في الرياض يومي الجمعة و السبت 9و10ديسمبر.
حيث قال “إنه سيتم العمل على إنشاء المركز الخليجي الصيني للأمن النووي، كما ستعزز بكين التعاون مع دول الخليج في الاستثمار بالطاقة النظيفة.
ورحّب الرئيس الصيني في كلمته بدخول رواد فضاء خليجيين لمحطة الفضاء الصينية، مشيرًا إلى أن بلاده تحرص على إطلاق سلسلة من مشاريع التعاون مع الخليج في مجالات الفضاء، بالإضافة لحرصها على التعاون مع دول الخليج في مجالات الحوسبة والاقتصاد الرقمي.
وقال في كلمته التي ألقاها في مستهل القمة العربية الصينية “إن هذه القمة هي بمثابة معلم فارق في تاريخ العلاقات الصينية العربية ستقود الصداقة والتعاون بين الصين والدول العربية نحو مستقبل أجمل بكل التأكيد” مضيفا “خلال السنوات الـ10 الماضية، ازداد حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية بـ100 مليار دولار أمريكي، وتجاوز إجماليه 300 مليار دولار أمريكي؛ وبلغ رصيد الاستثمار المباشر الصيني في الدول العربية 23 مليار دولار أمريكي بزيادة 2.6 ضعف؛ وتم تنفيذ أكثر من 200 مشروع في إطار التعاون في بناء “الحزام والطريق”، الأمر الذي عاد بالخير على قرابة ملياري نسمة”
و أهمّ ما جاء في كلمته و التي تؤكّد ما سلف ذكره هو قوله “في الوقت الراهن، دخل العالم مرحلة جديدة من الاضطراب والتحول، وتشهد منطقة الشرق الأوسط تغيرات جديدة وعميقة. باتت رغبة الشعوب العربية في السلام والتنمية أكثر إلحاحا، واشتدت نداءاتها الداعية إلى الإنصاف والعدالة”.
أمريكا المجروحة في كرامتها
لاتنظر الولايات المتحدة الأمريكية لهاته القمة بعين الرضا بل تعتبرها طعنة في الظهر من الدول العربية و جرحا لكرامتها وهي المطمئنة أنّ العرب لايمكن أن يغرّدوا خارج سربها .ومن المؤكّد أن البيت الأبيض قد تفاجأ بهذا التحرك الصيني السريع في اتجاه العرب بعد أن كانت استخباراته تراقب التمدد الصيني في افريقيا و تضع كل العراقيل أمامه على امتداد السنوات الماضية.
غير أن الموقف الرسمي الأمريكي من القمة العربية الصينية صدر ديبلوماسيا جدّا و عكس ما سيحدث من اهتزاز في علاقة واشنطن بعدد من الدول العربية و على رأسها السعودية حيث قال المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأميركية، صامويل وربيرغ “الولايات المتحدة تعلم أن بين حلفائها وشركائها في المنطقة علاقات معقدة مع جمهورية الصين الشعبية، ونحن نحترم قدرة الدول على اتخاذ قرارات سيادية بحسب ما تصب فيه مصلحة شعوبها”.لكنه أضاف “الولايات المتحدة لن تجبر الحلفاء والشركاء على الاختيار “بيننا أو بينهم”(في اشارة للصين) بل سنواجه هذه التحديات معا”.والواقع أن أمريكا ستفعل و ستمارس ضغوطها على الدول العربية للاختيار بين الصين و بينها مستعملة في ذلك نفوذها وقوتها العسكرية وخاصة الودائع الخليجية الضخمة في بنوكها.
افريقيا قلب الصراع الصيني الأمريكي
لئن سلّمت الولايات المتحدة الامريكية بالتواجد الصيني في المنطقة العربية والذي لم تعدّ له العدّ لصدّه كما قلنا فإنها لن تسمح بخسارة القارة الافريقية لحساب الصينيين و لو أنهم تغلغلوا بما يكفي لقضّ مضجع واشنطن.
وتعوّل واشنطن كثيرا على القمة الأمريكية-الأفريقية الثانية التي تستضيفها من 13 إلى 15 ديسمبر 2022
وبحسب جو بايدن فإن استضافة الولايات المتحدة القمة الثانية مع قادة دول أفريقيا تثبت التزام واشنطن الدائم تجاه القارة السمراء وتؤكد أهمية تعزيز سبل التعاون بشأن الأولويات العالمية المشتركة .وقال بايدن، فى بيان صحفي نشره البيت الأبيض عبر موقعه الإلكتروني، أتطلع إلى استضافة قادة من جميع أنحاء القارة الأفريقية وأضاف أن هذه القمة تظهر كذلك التزام الولايات المتحدة الدائم تجاه إفريقيا وتؤكد أهمية العلاقات بين الولايات المتحدة وأفريقيا.
غير أن ملاحظين يعتبرون أن هذه القمة هي من قبيل التسويق للقوة الأمريكية و أنها لن تمنح الدول الافريقية شيئا يذكر عدا صفقات الأسلحة التي تسوقها للدول و للمتمردين.غير أن الواقع أن الولايات المتحدة سوف تغيّر من أسلوبها تجاه هاته الدول و أنها ستحاول قدر الامكان بسط نفودها الكامل عليها و اخراج الصين وأوروبا منها لكن هذا قد ينجح مع دول العمق الافريقي لكنه سيفشل مع دول شمال افريقيا و خاصة الجزائر و تونس و حتى مصر حيث تعدّ هاته الدول حجر الأساس في العلاقات التجارية و الاقتصادية بين الصين و بقية الدول العربية و ما ستجنيه من موقعها الاستراتيجي من التبادل التجاري العربي الصيني أكثر بكثير ممّا جنته من الولايات المتحدة و أوروباّ مجتمعتين.